رواية المختار

أحمد… ١٢ سنة.
جالي العيادة مع أهله.
الولد ملامحه عادية… لكن الجو اللي دخلوا بيه ما كانش مريح.

الأب، صوته فيه غِل:
– الواد ده بيدلع… بيشتكي من صداع، ومفيهوش حاجة.

ما رديتش. سبتهم يفضّوا اللي عندهم، وبدأت أكشف عليه زي أي حالة صداع: ضغط، نبض، عينه، الأعصاب… كله طبيعي.

بس سكوته تقيل… ونظرته فيها حاجة مش راكبة.

الأم، وهي متضايقة:
– كل شوية يسرح دقيقة ولا اتنين، ويبقى كأنه مش هنا.

سألت، وأنا بفكر في احتمال مشكلة في المخ:
– بيشتم؟ أو بيهيج فجأة؟

الأب رد بسرعة، وكأنه لقى اللي بيبرر عصبيته:
– أيوه! بيشتم بأقذر الكلام، ويضرب ويخربش… ومهما نضربه أو نعاقبه… قليل الأدب.

طلبت أشعة رنين.
النتيجة: ورم صغير في الفص الأمامي. مكانه ممكن يفسر العنف وقلة الأدب. طبي منطقياً… لحد هنا.

بس الصورة كان فيها حاجة غريبة.. الورم كان شكله غريب.. اول مرة اشوفه.

وأنا بشرح للأهل، حطيت عيني على أحمد.
كان جفنه نازل نصه… وفجأة عينه فتحت على الآخر، كأنه شاف حاجة ورايا.
بصيت في الاتجاه اللي بص فيه… ملقتش حاجة.

سألته:
– شايف إيه يا أحمد؟
قال بصوت واطي متقطع:
– هو… مش ورا حضرتك؟

الأم صرخت:
– أهو ده اللي بقولك عليه! بيخوفنا بخيالاته.

سألتهم:
– بيحكيلكم اللي بيشوفه؟
الأب:
– بيقول في حد بيقف عند سريره بالليل، ويسمع نفس تقيل، ويصحى يلاقي نفسه في أوضة تانية.

كتبت في الملف: احتمال هلوسة.
بس جوايا… في حاجة مش هاضماها.

قررت أسيبه يبات في المستشفى.

أول ليلة، الساعة ٣ الفجر… الممرضة جريت عليا:
– دكتور… تعال بسرعة.

دخلت الأوضة، لقيته واقف في الركن، ضهره لينا، بيشهق بسرعة.
– أحمد؟

ما ردش.
مديت إيدي على كتفه… لف ببطء.
اللي كان باصصلي ما كانش طفل… كانت نظرة أبرد من التلاجة.
ابتسم وقال:
– هو بيقولك تبطّل تدور.

الممرضة شهقت.
– مين “هو”؟
غمض عينه… ووقع على الأرض.

بعدها بقيت ألاحظ… كل مرة يجي له الدور، النور يومض، الأجهزة تعك، مية الحوض تسخن فجأة.
وعينه دايمًا رايحة على نفس الزاوية.

جبت “نهى” زميلتي في قسم الأعصاب.
كانت بتضحك وهي بتسمع حكايتي، لحد ما قعدنا احنا الاتنين جنب سرير احمد.

فجأة… من السماعة الموصولة بسرير أحمد، جه صوت همس تخين، تقيل، بيكرر ببطء:
– مش هتمشي… مش هيمشي… مش هتمشي…

نهى اتجمدت مكانها، وعينيها فتحت على الآخر، وقالت بصوت واطي متلخبط:
– مستحيل… الأجهزة دي ما بتسجلش غير صوت المريض!

أنا فضلت أبص لها لحظة، وحسيت البرد بيطلع من عمودي الفقري لحد راسي.
قلت بهدوء مش طبيعي:
– وأنا متأكد… الصوت ده مش صوته.

ساعتها فهمت… أنا مش بتعامل مع مريض.
أنا واقف قدام حاجة… مفيش علم ولا كتاب طب يقدر يشرحها.

بدأت الأفكار تتسلل لعقلي… يمكن الورم مش السبب.
يمكن في حاجة تانية… حاجة بتستغل الورم، زي الطفيليات اللي بتعيش على كائن أكبر منها، بس دي… مش طفيليات عادية.

الليالي بقت أطول… أو يمكن أنا اللي بقيت أحسها كده.
كل ما ييجي الليل، ممرات المستشفى تفرغ إلا من خطوات موزونة، مش دايمًا أعرف مصدرها.
إحساس ثابت… إن في حد واقف عند نهاية الممر، مستنيني.
كل مرة أروح أشوف… ألاقيه فاضي.

أحمد نفسه بدأ يتغيّر.
مش في شكله… لكن في الجو حواليه.
الأوضة بقت أبرَد من بقية المستشفى بدرجة أو درجتين، حتى الترمومتر بيأكد.
وفي ساعات معينة، ريحة غريبة تملأ المكان… شبه ريحة حديد صدئ أو دم قديم، وتختفي فجأة كأنها ما كانتش موجودة.

أكتر حاجة منعت عني النوم… الليلة اللي سمعت فيها أحمد بيضحك وهو نايم.
ضحك مش طبيعي… مش ضحك طفل، ولا حتى ضحك ساخر.
كان ضحك متقطع، عميق… كأنه بيطلع من جوه صدر حد تاني.

حاولت أصحيه… عينه فتحت، لكن الضحك ما وقفش.
وفجأة… سكت.
وشه اتقلب جدي جدًا، وبصلي وقال:
– دكتور… هو واقف وراك.

اتلفت بسرعة… مفيش.
ولما بصيت له تاني… كان نايم.

تاني يوم، وأنا براجع الفحوصات، الممرضة جريت عليا:
– دكتور، تعال بسرعة!

دخلت… لقيت أحمد قاعد على السرير، عينيه مركزة على قاع الحيطة.
أصابعه بترسم على الملاءة دوائر صغيرة متشابكة، بسرعة وعصبية.
لما حاولت أمسك إيده… اتشنج، وصرخ صرخة حادة، كأنها بتخترق المخ.

الأجهزة كلها بدأت تدي إنذارات في نفس اللحظة.
ضغطه نزل، قلبه أسرع، والموجات الدماغية خرجت عن أي نمط معروف.
المستويات كانت عالية جدًا… كأن مخه بيشتغل على تردد أعلى من قدرة الجسم على الاحتمال.

وبعد الصرخة… وقع على السرير.
مبتسم.

الابتسامة دي فضلت محفورة في دماغي لأيام.
ابتسامة ما فيهاش براءة طفل… لكن فيها راحة.
راحة حد لقى اللي كان مستنيه.

الليلة اللي بعدها… الليلة اللي بدأت فيها أصدق إن اللي جوه أحمد مش ورم… ولا مرض… ولا حتى حاجة من عالمنا.
كنت في مكتبي، الساعة اتنين وخمسة وأربعين الفجر، بقلّب في ملفاته، والليل برا المستشفى ساكت بشكل مش مريح.
خطوات… بطيئة، تقيلة، بتحفر في البلاط كأنها جاية من بعيد أوي… وتقرب.

فتحت الباب… الممر فاضي، بس الإضاءة النيون كانت بتومض، كل ومضة أطول من اللي قبلها.
رجعت المكتب… لقيت ورقة صغيرة فوق الملف، الورقة باهتة لكن الكلام واضح:
“ما تحاولش تعالجه… هو مش عايز.”

عرفت خط أحمد… لكن الورقة ريحتها ما كانتش زي ورق المستشفى… كانت قديمة، زي ورق مكتبة مهجورة.

من بعدها، كل مرة أشوفه، أحس كأني مش واقف قدام طفل.
كان بيبص لي بطريقة تخلي ضهري يتقوس من البرد، حتى لو الجو حر.
سألت الممرضين، واحد قال إنه شاف ظل صغير في الممر، لكن الظل كان ماشي عكس الإضاءة… وكأن النور نفسه بيبعد عنه.
الكاميرات؟ ما سجلتش أي حاجة.

وأكتر حاجة خلتني أتشكك… كل مرة أكتب ملاحظاتي، ألاقي أحمد بيراقب القلم، عينه بتسبق الكلمات وهي بتتكوّن.
سألته مرة:
– إنت عارف أنا هكتب إيه؟
ابتسم وقال:
– أنا كتبتلك… قبل ما تيجي.

ابتسامته ما كانتش ابتسامة طفل… كانت ابتسامة حد فاكرني من زمان.

ليلة العملية، الإضاءة في أوضته شبه منطفية، الأجهزة بتعمل وِشّ، لكن في وِشّ تاني… أعمق… كأنه صوت نفس حد بيتنفس جنبي من غير ما أشوفه.

قلت له:

– هنشيل الورم… وهتحس أحسن.

بص لي بعيون ثابتة وقال:

– لو شيلتوه… هتفضل لوحدك.

كلامه ما كانش تهديد، كان كأنه بيحكي حقيقة هو شايفها… وأنا مش قادر أشوفها.

الممرضة دخلت وقالت إن أهله برّه.

وأنا ماشي في الممر، سمعت أمه بتعيط، وأبوه بيقول بصوت مخنوق:

– خلينا نخلص… كل ليلة بييجي لنا في الحلم.

برد جري في ضهري.

كل ليلة… بييجي لهم في الحلم..

وإحنا ماشيين في الممر، الأنوار الفلورية فوقينا بتعدي واحدة واحدة، وفجأة النور قطع لحظة ورجع، وأحمد فتح عينه وقال:
– هو اختارك من زمان.

في أوضة العمليات، أول ما بدأوا التخدير، قلبه بدأ يبطّأ، وصوت المونيتور بيعلى بحدة.
الممرضة قالت بملامح شاحبة:
– دكتور… الموجات الدماغية مش طبيعية.

بصيت على الشاشة… واتجمّدت.
الخطوط ما كانتش موجات، ولا حتى رسم بياني… كانت حروف، بتترتب ببطء، وبوضوح يخليك تحس إن في إيد مش بشرية بتكتبها قدامي:
“أنت المختار.”

رمشت… الكلمة لسه موجودة.
بصيت للممرضة، لقيتها بتكتب ملاحظاتها وهي لسه عينها على الشاشة، وقالت:
– النمط غريب… عمري ما شفت حاجة شبهه.

سألتها بصوت واطي:
– شايفة حاجة تاني غير النمط؟

بصّتلي لحظة، وقالت:
– لأ… بس خطوط غريبة، مش طبيعية.

هزّيت راسي من غير ما أقولها… أنا مش شايف خطوط.
أنا شايف حروف… بتتكوّن قدامي، وبوضوح يخلي الدم يتجمّد في عروقي:
“أنت المختار.”

بدأت أحس إني ممكن أكون بتوهّم… يمكن عقلي هو اللي بيخدعني. بقيت مش متأكد أنا شايف إيه ولا إيه الحقيقي أصلًا.
كتمت نفسي، وإحساس تقيل قاعد على صدري… لأول مرة حسّيت إن المشكلة يمكن ما تكونش في أحمد… يمكن تكون فيّ أنا.

بعد العملية، أحمد ما فاقش. الأطباء قالوا “غيبوبة”، لكن أوضته كانت بردة بشكل غريب… لدرجة إن الممرضة قالت إنها شافت بخار بيطلع من بوقه وهو تحت البطانية.

وأنا بكتب التقرير الأخير، لقيت ورقة على مكتبي… نفس الورقة القديمة، لكن المرة دي الخط محفور جواها كأن الورقة نفسها بتنزف:
“دلوقتي دورك.”

رفعت عيني… الممر قدامي كان فاضي.
النيون فوق دماغي بدأ يومض ببطء…
وبين كل ومضة والتانية… كان في ظل طويل… ورفيع… أطول من أي بني آدم.
ومع كل ومضة… بيقرب أكتر.

قلبي بيدق جامد، بيخبط في ضلوعي… وإيديا تلج.
أنا مش قادر أتحرك… ومش عارف إذا كنت صاحي ولا بحلم…

رواية مجدولين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top