في السنوات الأخيرة، تحول الذكاء الاصطناعي (AI) من فكرة أكاديمية إلى صناعة متكاملة تؤثر في الاقتصاد العالمي. بريطانيا، التي لطالما اعتُبرت مركزًا ماليًا وتقنيًا في أوروبا، استطاعت أن تترجم هذا التحول إلى أرقام قياسية، حيث وصل حجم استثمارات الذكاء الاصطناعي في عام 2024 إلى 2.9 مليار جنيه إسترليني، وهو أعلى رقم مسجل حتى الآن.
هذه الطفرة المالية لم تأتِ من فراغ؛ بل هي نتاج مزيج من السياسات الحكومية الداعمة، وجود بيئة بحثية متقدمة، وسوق مفتوح للشركات الناشئة، مما جعل بريطانيا منافسًا رئيسيًا للولايات المتحدة والصين في سباق الذكاء الاصطناعي.
نمو عالمي… وبريطانيا في الصدارة الأوروبية
الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد صناعة محلية؛ فهو سباق عالمي بين قوى كبرى تسعى للسيطرة على اقتصاد المستقبل. في النصف الأول من عام 2025، جمعت الشركات البريطانية 2.4 مليار دولار، ما يمثل حوالي 30% من إجمالي الاستثمارات الأوروبية، لتتفوق بريطانيا بوضوح على فرنسا وألمانيا، وفق تقارير مالية حديثة.
ولعل أهم ما يميز السوق البريطاني هو التنوع؛ فالشركات لا تقتصر على وادي السيليكون البريطاني في لندن، بل بدأت تنتشر في مناطق أخرى، مدعومة ببرامج تمويل حكومية وخاصة تستهدف المبتكرين.
تفاصيل الأرقام: ما وراء الـ 2.9 مليار جنيه إسترليني
عدد الصفقات: 496 صفقة استثمارية في 2024، مقارنة بـ 512 صفقة في 2022.
متوسط حجم الصفقة: ارتفع من 4.6 مليون جنيه إلى 5.9 مليون جنيه.
القيمة الاقتصادية للقطاع: قفزت إلى 11.8 مليار جنيه.
الوظائف: تجاوز عدد العاملين في القطاع 86 ألف موظف، ما يجعل الذكاء الاصطناعي أحد أسرع القطاعات نموًا في سوق العمل البريطاني.
هذه الأرقام تعكس انتقال الذكاء الاصطناعي من مرحلة المشاريع التجريبية إلى مرحلة التوسع الصناعي، حيث تستقطب الشركات البريطانية الآن استثمارات ضخمة من مستثمرين عالميين مثل SoftBank وMicrosoft.
الذكاء الاصطناعي في السيارات والقطاعات الحيوية
لم يعد الذكاء الاصطناعي حكرًا على شركات البرمجيات؛ بل تسلل إلى قطاعات متعددة.
السيارات ذاتية القيادة: شركة Wayve الناشئة جمعت تمويلًا قياسيًا بقيمة مليار دولار لتطوير برمجيات القيادة الذاتية.
الصحة: شركات ناشئة تعمل على تطوير أنظمة تشخيص ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
الأمن السيبراني: استخدام خوارزميات متقدمة لرصد التهديدات.
التجزئة والخدمات المالية: الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتحسين تجربة العملاء وتحليل السوق.
البنية التحتية الرقمية: مشروع 4 مليارات جنيه إسترليني
بريطانيا تتجه نحو استثمارات ضخمة في البنية التحتية، مثل بناء أكبر مزرعة بيانات للذكاء الاصطناعي في أوروبا في اسكتلندا. المشروع، الذي تصل تكلفته إلى 4 مليارات جنيه، يهدف لتوفير بيئة حوسبة فائقة الأداء، مما يسهل تدريب النماذج الضخمة محليًا بدلاً من الاعتماد على الخوادم في الولايات المتحدة أو آسيا.
التحديات: توزيع غير عادل للاستثمار
رغم النمو المذهل، لا تزال هناك مخاوف بشأن التوزيع الجغرافي للاستثمارات. لندن وجنوب شرق إنجلترا تستحوذان على النصيب الأكبر، بينما تواجه مناطق مثل ويلز وشمال إنجلترا تحديات في جذب المستثمرين.
هذا يثير تساؤلات حول كيفية تحويل بريطانيا كلها إلى مركز عالمي للذكاء الاصطناعي وليس فقط لندن. الحكومة وعدت بضخ استثمارات أكبر في مراكز التكنولوجيا خارج العاصمة لضمان التوازن.
فجوة المواهب والمهارات
أحد أبرز التحديات هو نقص الكفاءات المتخصصة. مع النمو السريع للقطاع، أصبحت الشركات بحاجة إلى مهندسين وعلماء بيانات ذوي خبرة، بينما لا يزال العرض محدودًا.
الحكومة أطلقت برامج تعليمية متخصصة في الجامعات البريطانية لتعزيز المهارات الرقمية، كما تسعى لجذب الخبرات الدولية عبر تسهيلات في تأشيرات العمل.
الشركات الناشئة ونموذج التمويل
الشركات الناشئة في بريطانيا تواجه تحديًا كبيرًا في مرحلة التمويل المتقدم (Scale-Up). فبينما تتلقى هذه الشركات دعمًا كبيرًا في المراحل الأولى، إلا أن الكثير منها يجد صعوبة في تأمين استثمارات كافية للنمو عالميًا. هذا الخلل قد يفتح المجال أمام استحواذ الشركات الأمريكية أو الصينية على الابتكارات البريطانية.
دور الحكومة في دعم الذكاء الاصطناعي
الحكومة البريطانية خصصت مليارات الجنيهات لدعم الذكاء الاصطناعي، ليس فقط عبر الاستثمار المالي، بل أيضًا من خلال:
دعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
تمويل الأبحاث في الجامعات.
إنشاء مراكز بحثية متقدمة في لندن وكامبريدج.
تطوير قوانين مرنة تحفز الابتكار مع ضمان حماية الخصوصية.
المنافسة الدولية: معركة القرن
بينما تتصدر بريطانيا أوروبا، تبقى المنافسة مع الولايات المتحدة والصين حادة. الصين تستثمر مليارات في الذكاء الاصطناعي عبر شركات مثل Baidu وAlibaba، بينما تقود الولايات المتحدة السباق عالميًا بفضل شركات كبرى مثل OpenAI وGoogle DeepMind (التي بدأت في لندن لكنها أصبحت عالمية).
هذه المعركة تعني أن بريطانيا بحاجة إلى تعزيز الابتكار المحلي واستقطاب العقول العالمية لتظل في دائرة المنافسة.
بريطانيا في قلب الثورة الرقمية
الذكاء الاصطناعي في بريطانيا ليس مجرد قطاع تكنولوجي، بل أصبح ركيزة اقتصادية تقود التحول الرقمي العالمي. نجاح بريطانيا في السنوات المقبلة يعتمد على:
- تحقيق توزيع عادل للاستثمارات في جميع المناطق.
- سد فجوة المواهب عبر التعليم واستقطاب الخبراء.
- دعم الشركات الناشئة في مراحل النمو العالمية.
- الاستثمار في البنية التحتية الضخمة مثل مزارع البيانات ومراكز الحوسبة الفائقة.
إذا استطاعت المملكة المتحدة تحقيق هذه الأهداف، فإنها ستصبح لاعبًا رئيسيًا في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي في عصر الذكاء الاصطناعي.